أهمية تعلم علم النحو
أبو أنس أشرف بن يوسف بن حسن
المصدر: كتاب أهمية تعلم علم النحو ومكانته عند السلف
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ الحمدَ لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذُ بالله تعالى من شُرُور أنفسنا وسيئات أعمالنا، إنَّه مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعدُ، فإنَّ أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمَّد - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، وشر الأمور مُحدَثاتها، وكل مُحدَثة بدعة، وكل بدعة ضَلاَلة، وكل ضَلاَلة في النَّار.
أمَّا بعدُ؛ فإنَّ اللغة العربيَّة هي اللغة التي اختارها الله لهذا الدِّين، ولا يَمْتَرِي أحدٌ في أنَّ اللُّغة العربيَّة وعلومَها تُنَزَّلُ من علومِ الإسلامِ ومعارفِه مَنْزِلة اللسان من جَوارح الإنسان، ولا نَبعُدُ كثيرًا إذا قُلنَا: بل منزلةَ القلب منَ الجَسَد؛ لأنَّها لسان الإسلام الأَسْمى، بها أُنْزِلَ القرآن العظيم، فقال - جَلَّ وعَلاَ -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2].
"وإذا كانتِ اللُّغة هي خِزَانةَ الفكر الإنساني؛ فإنَّ خزائن العربيَّة قدِ ادَّخَرَت من نفيس البيان الصَّحيح عنِ الفكر الإنساني، وعن النُّفوس الإنسانيَّة، ما يُعجز سائر اللُّغات؛ لأنَّها صُفِّيَت منذ الجاهليَّة الأولى المُعرِقَة في القِدَم، من نفوس مُختَارة بريئة منَ الخَسَائس المُزرِيَة، ومنَ العلل الغالبة، حتى إذا جاء إسماعيلُ نبي الله، ابنُ إبراهيمَ خليل الله - عليهما الصَّلاة والسَّلام، أَخَذَها وزادها نصاعة وبراعة وكرمًا، وأسلمها إلى أبنائه منَ العَرَب، وهم على الحَنِيفِيَّة السَّمْحَة دين أبيهم إبراهيم.
فَظَلَّت تَتَحَدَّر على ألسنتهم مُختَارَة مُصَفَّاة مُبَرَّأَة، حتَّى أظَلَّ زمان نبي، لا ينطق عنِ الهوى - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم، فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مُبين، بلا رمز مبني على الخُرَافَات والأوهام، ولا ادِّعاء لِمَا لم يكن، ولا نسبة كَذِب إلى الله، تعالى الله عن ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا"[1].
قال ابن كثير - رحمه الله - في "تفسيره" 2/ 467: لغة العَرَب هي أفصح اللُّغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أُنْزِل أشرف الكُتُب بأشرف اللُّغات على أشرف الرسل... إلى آخر كلامه - رَحِمَه الله تعالى.
وقال شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة - رحمه الله - في "اقتضاء الصِّراط المستقيم" ص 268: إنَّ اللهَ لَمَّا أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مُبَلِّغًا عنه الكتابَ والحكمةَ بلسانه العَرَبي، وجعل السَّابقينَ إلى هذا الدين مُتَكَلِّمينَ به، ولم يكن سبيل إلى ضبط الدِّين ومعرفته إلاَّ بضبط هذا اللِّسان، صارت معرفته منَ الدِّين، وصار اعتبار التَّكَلُّم به أسهل على أهل الدِّين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدِّين، وأقرب إلى مُشابهتهم للسَّابقينَ الأَوَّلينَ منَ المُهَاجرينَ والأنصار في جميع أمورهم. ا. هـ
وقد قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - في وصف كتابه: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]، فوصفه بالاستقامة كما وصفه بالبيان في قوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، وكما وصفه بالعدل في قوله: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا} [الرعد: 37].
وقال أبو إسحاق الزَّجَّاج[2]:
"سَمِعْتُ أبا العَبَّاس المُبَرِّد[3] يقول: كان بعضُ السَّلَف يقول: عليكم بالعربيَّة؛ فإنَّها المروءة الظَّاهرة، وهي كلام الله - عَزَّ وَجَلَّ - وأنبيائه وملائكته... إلى آخر كلامه - رَحمَه الله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في "مجموع الفتاوى" 32/ 252: معلوم أنَّ تعلُّمَ العربيَّة وتعليم العربية فَرض على الكفاية، وكان السَّلَف يُؤَدِّبُون أولادهم على اللَّحن، فنحن مأمورونَ أمر إيجابٍ أو أمرَ استحبابٍ أن نحفظَ القانونَ العربي، ونصلح الألسن المائلة عنه، فيحفظ لنا طريقة فَهم الكتاب والسُّنَّة، والاقتداء بالعرب في خِطَابِها، فلو تُرِكَ النَّاسُ على لَحْنِهِم كان نقصًا وعيبًا. ا.هـ
ونقل شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - في "اقتضاء الصراط المستقيم" ص 310 عن الإمام أحمد - رحمه الله - كَرَاهَة الرَّطَانة[4]، وتسمية الشُّهُور بالأسماء الأعجَميَّة، والوَجه عند الإمام أحمد في ذلك كَرَاهة أن يَتَعَوَّد الرَّجل النُّطق بغير العَرَبيَّة[5].
ثمَّ قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - ص 311: "لأنَّ اللِّسان العربي شعار الإسلام وأهله، واللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يَتَمَيَّزُونَ، ولِهَذا كان كثير منَ الفُقهاء أو أكثرهم يكرهون في الأدعية التي في الصَّلاة والذِّكر أن يُدعَى الله، أو يذكر بغير العربيَّة. ا.هـ
وإذا كانتِ اللغات من أعظم شعائر الأمم التي بها يَتَمَيَّزون - كما قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - فإنَّ الأمَّة العزيزة تعتز بلغتها، وتحرص على استقلالها اللُّغَوي؛ كما تحرص على استقلالها العسكري والاقتصادي سواء، وتحترم قوانينها اللُّغَويَّة، وتَتَمَسَّك بها، والأمَّة الذَّليلة تفرط في لغتها، حتى تصبح أجنبيَّة عنها، وهي مَنسوبة إليها.
إلى مثل هذا المعنى أشارَ الكاتب الحجَّة البليغ مصطفى صادق الرَّافعي - رحمه الله - في قوله: "هل أعجب مِن أن المَجمَع العلمي الفرنسي يُؤَذِّن في قومه بإبطال كلمةٍ إنجليزيَّة، كانت في الألسنة من أثر الحرب الكبرى، ويوجب إسقاطها منَ اللُّغة جُملَةً، وهي كلمة: (نظام الحصر البَحْري)، وكانت مِمَّا جاءت مع نَكَبات فرنسا في الحرب العظمى.
فلَمَّا ذهبت تلك النَّكَبات، رأى المجمع العلمي أنَّ الكلمة وحدها نكبة على اللُّغة، كأنَّها جندي دولة أجنبيَّة في أرض دولة مُستَقلَّة بِشَارَتِه وسِلاحِه وعَلَمِه، يُعْلِن عن قَهْرٍ، أو غَلَبة، أو استعبادٍ! وهل فعلوا ذلكَ إلاَّ أنَّ التَّهَاون يدعو بعضه إلى بعض، وأنَّ الغفلة تبعث على ضعف الحفظ والتَّصَوُّن، وأنَّ الاختلاطَ والاضطراب يجيء منَ الغفلة، والفَسَاد يجتمع منَ الاختلاط والاضْطرَاب.
إنَّما الأُمُور بِمَقَاديرها في ميزان الاصطلاح، لا بِأَوزَانها في نفسها، فألف جندي أجنبي بأسلحتهم وذَخيرتهم في أرض هالِكَة بأهليها، ربما كانوا غوثًا تَفَتَّحَت به السَّماء؛ ولكن جنديًّا واحدًا من هؤلاء في أمَّة قويَّة مستقلَّة، تنشق له الأرض، وتكاد السَّماء أن تَقَعَ[6]. ا.هـ
وقال - رَحمَه الله - في موضعٍ آخر: ما ذَلَّت لغة شعب إلاَّ ذَلَّ، ولا انْحَطَّت إلاَّ كان أمره في ذَهابٍ وإِدْبار، ومِن هذا يفرض الأجنبي المستعمر[7] لغتَه فرضًا على الأمَّة المُستَعمَرَة، ويركبهم بها، ويشعرهم عظمته فيها، ويستلحقهم من ناحيتها؛ فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثة في عمل واحد:
أمَّا الأوَّل: فحبس لغتهم في لغته سجنًا مؤبَّدًا.
وأمَّا الثاني: فالحكم على ماضيهم بالقَتل محوًا ونسيانًا.
وأمَّا الثالث: فتَقييد مُستقبلهم في الأَغلال التي يَصنَعُها، فأمرهم من بعدها لأمره تَبَعٌ"[8]. ا.هـ.
وقد قال الشَّافعي - رحمَه الله -:
إنَّ المسلمَ عليه أن يكونَ تَبَعًا فيما افتُرِضَ عليه، ونُدِبَ إليه، لا مَتْبُوعًا؛ أيْ: على كلِّ مسلمٍ أن يَتَعَلَّمَ من لغة العرب ما يكون به على أصل ما جاء به النَّبي - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - لا أن يظلَّ على لغته هو، أو عرف قومه واصطلاحهم ولهجتهم، وتتبعه لغة العرب التي جاءَ بها القرآن وسُنَّة النَّبي - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - فيكون بذلكَ متبوعًا.
واعلم أنَّ شخصيَّة الأمَّة تبدو جَليَّة عند اعتيادها الأخذ بلغة الكتاب العزيز، وأن تَرْكَ تلكَ اللُّغة مضيعة لشخصيَّة الأمَّة، وامِّحاء لها، وذوبان لتلكَ الشَّخصيَّة في كيان الأمم التي تَتَكَلَّم الأمة لغاتها.
فإن تَرَكَتِ الأمَّة لغةَ الكتاب إلى غير لُغَة مِمَّا يعتد به، فاعلم أنَّها أصْبَحَت أمَّة لا شخصيَّة لها، وعُدَّها في الموتى، وكَبِّر عليها أربعًا.
قال شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة - رحمَه الله -:
"اعلم أنَّ اعتيادَ اللُّغة يؤثر في العقل والخُلُق والدِّين، تأثيرًا قويًّا بَيِّنًا، ويُؤَثِّر أيضًا في مشابهة صدر هذه الأمَّة منَ الصَّحابة والتابعينَ، ومُشَابَهتُهم تزيد العقل والدِّين والخُلُق"[9]. ا. هـ
وقال الرَّافعي - رحمه الله -:
"اللُّغة هي صورة وجود الأمَّة بأفكارها ومعانيها وحقائق نفوسها، وجودًا مُتَمَيِّزًا بخصائصه؛ فهي قوميَّة الفِكر، تَتَّحد بها الأمَّة في صور التفكير وأساليب أخذ المعنى منَ المادَّة.
والدِّقَّة في تركيب اللُّغة دليلٌ على دِقَّة المَلَكَات في أهلها، وعمقها هو عُمْق الرُّوح، ودليل الحِسِّ على ميل الأمَّة إلى التَّفكير والبحث في الأسباب والعِلَل.
وكثرة مُشتَقَّاتها برهان على نَزعة الحُرِّيَّة وطِماحها؛ فإنَّ رُوح الاستعباد ضَيِّق لا يَتَّسع، ودَأْبُه لُزُوم الكلمة والكلمات القليلة.
وإذا كانتِ اللُّغة بهذه المَنْزِلة، وكانت أمَّتُها حريصة عليها، ناهِضةً بها، مُتَّسِعة فيها، مكبرة شأنها، فما يأتي ذلكَ إلاَّ من رُوح التَّسَلُّط في شعبها والمُطابقة بين طبيعته وعمل طبيعته، وكونه سيد أمره، ومُحَقق وجوده، ومستعمل قُوَّته، والآخذ بحقِّه.
فأمَّا إذا كان منه التَّرَاخي والإهمال، وتَرك اللُّغة للطَّبيعة السُّوقيَّة، وإصغار أمرها، وتهوين خَطَرها، وإيثار غيرها بالحُبِّ والإكبار، فهذا شَعب خادمٌ لا مَخدوم، تابع لا مَتبُوع، ضعيف عن تكاليف السِّيادَة.
لا يطيق أن يحملَ عظمة ميراثه، مُجتَزئ ببعض حَقِّه، مكتفٍ بضَرُورَات العيش، يوضع لِحُكمه القانونُ الذي أكثره للحرمان، وأقَلُّه للفائدة التي هي كالحِرْمان.
لا جَرَمَ كانت لُغة الأمَّة هي الهدفَ الأَوَّل للمستعمرينَ، فلَن يَتَحَوَّل الشَّعب أول ما يَتَحَوَّل إلاَّ من لُغَته؛ إذ يكونُ منشأ التَّحَوُّل من أفكاره وعَوَاطفه وآماله.
وهو إذا انْقَطَعَ من نَسَب لغته انقَطَعَ من نَسَب ماضيه، فلَيسَ كاللُّغة نسبٌ للعاطفة والفِكْر؛ حتَّى إنَّ أبناء الأب الواحد لو اختلفت ألسنتُهُم، فنَشَأَ منهم ناشئ على لُغَة، ونشأ الثاني على أخرى، والثالث على لُغَة ثالثة، لكانوا في العاطفة كأبناء ثلاثة آباء"[10]. ا.هـ
وكان علماء الأمَّة - رحمهمُ الله - في صَدْرها الأَوَّل على وعي كامل بأَثَر اللغة في تكوين الأمَّة، وخطرها في بناء شَخصيَّة المسلم، ولذلكَ حَرَصُوا حرصًا شديدًا على لغة القرآن والسُّنَّة، وشَدَّدُوا النَّكير على مَن حادَ عنها إلى غيرها، واستبدلَ الذي هو أدنى بالذي هو خير.
قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمَه الله -:
قال الشَّافعي، فيما رواه السِّلَفِي بإسناد مَعروف إلى محمد بن عبدالحَكَم قال: سمعتُ محمَّد بن إدريس الشَّافعي يقول:
"سَمَّى الله الطَّالبينَ من فضله في الشِّراء والبيع تُجَّارًا، ولم تزل العرب تُسميهم التجَّار، ثم سَمَّاهم رسول الله - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم - بما سَمَّى الله به منَ التِّجارة بلسان العرب.
والسَّمَاسرة اسم من أسماء العَجَم، فلاَ نحبُّ أن يُسمِّيَ رجلٌ يعرف العربيَّة تاجرًا إلاَّ تاجرًا، ولا ينطق بالعربيَّة، فيسمي شيئًا بالعجميَّة؛ وذلكَ أنَّ اللسانَ الذي اختاره الله - عَزَّ وَجَلَّ - لسان العرب، فأنزل به كتابه العزيز، وجعَلَه لسان خاتم أنبيائه محمَّد - صَلَّى الله عليه وَسَلَّم.
ولِهَذا نقول: ينبغي لكُلِّ أحدٍ يَقدِر على تَعَلُّم العَرَبيَّة أن يَتَعَلَّمَهَا؛ لأنَّها اللسان الأَوْلَى بأن يكونَ مرغوبًا فيه، مِن غير أن يُحرِّم على أحدٍ أن ينطقَ بالعجميَّة.
قال شيخ الإسلام:
فقد كَرِه الشافعي لِمَن يعرف العربيَّة أن يسميَ بغيرها، وأن يَتَكَلَّمَ بها خالطًا لها بالعَجميَّة، وهذا الذي ذكره، قالَهُ الأئمة مأثورًا عنِ الصَّحابة والتابعينَ"[11]. ا. هـ
وقال - رحمه الله - في موضع آخر:
"وما زال السَّلَف يكرهون تغيير شعائر العرب حتَّى في المُعَامَلات، وهو التَّكَلُّم بغير العربيَّة، إلاَّ لحاجَة، كما نَصَّ على ذلك مالكٌ والشَّافعي وأحمد؛ بل قال مالك: مَن تَكَلَّم في مسجدنا بغير العربيَّة أُخرِج منه.
مع أنَّ سائرَ الألسن يَجوز النُّطق بها لأصحابها؛ ولكن سَوَّغوها للحاجة، وكَرهُوهَا لغير الحاجة، ولِحِفْظ الإسلام.
فإنَّ اللهَ أنزل كتابه باللسان العربي، وبَعَثَ به نَبيَّه العربي، وجعلَ الأمَّة العربيَّة خير الأمم، فصارَ حفظ شعارهم من تَمَام حفظ الإسلام.
فكيف بِمَن تَقَدَّم على الكلام العربي - مُفرده ومنظومه - يُغَيِّرُه ويُبَدِّله، ويخرجه عن قانونه، ويُكَلِّف الانتقال عنه؟!"[12].
ولم يكنِ العَرَبُ عندما يفتحون بلدًا منَ البُلدان يتركون لسانَهم ولسان قرآنهم من أجل لسان أحد؛ وإنما تغلب العربيَّة على أهل المِصْر المَفْتوح حتَّى تطبق عليه، ويكره المسلمونَ أَشَدَّ الكُرْهِ أن تَتَفَشَّى فيهم العُجْمة والرَّطَانَة البعيدتان عن لغة الكتاب وأهله.
قال شيخ الإسلام:
"واعتياد الخِطاب بغير العربيَّة التي هيَ شعار الإسلام ولُغة القرآن، حتى يصيرَ ذلكَ عادَة للمِصْر وأهله، ولأهل الدار، وللرجل معَ صاحبه، ولأهل السُّوق، أو للأُمراء، أو لأهل الدِّيوان، أو لأهل الفقه، فلاَ ريبَ أنَّ هذا مكروه؛ فإنَّه منَ التَّشَبُّه بالأعاجم.
ولهذا كانَ المسلمونَ المُتَقَدِّمون، لَمَّا سَكَنوا أرض الشام ومِصْر، ولغةُ أهلهما رُوميَّة، وأرضَ العراق وخُرَاسَان، ولغةُ أهلهما فارسيَّة، وأرضَ المغرب ولغةُ أهلها بَرْبَرِيَّة، عَوَّدُوا أهل هذه البلاد العَرَبيَّة، حتَّى غلبت على أهل هذه الأَمصار؛ مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خُرَاسَان قديمًا.
ثمَّ إنَّهم - أي: المسلمينَ - تساهَلُوا في أمر اللغة، واعتادوا الخطاب بالفارسيَّة، حتى غلبت عليهم، وصارتِ العربيَّة مهجورةً عند كثيرٍ منهم، ولا ريبَ أنَّ هذا مَكرُوه.
وإنَّما الطَّريق الحَسَن اعتياد الخطاب بالعربيَّة، حتى يَتَلَقَّنها الصِّغار في الدُّور والمكاتب، فيظهر شعار الإسلام وأهله، ويكون ذلكَ أسهل على أهل الإسلام في فِقه معاني الكتاب والسُّنَّة وكلام السَّلَف، بخلاف منِ اعتادَ لغة، ثم أراد أن ينتقلَ إلى أخرى فإنَّه يصعبُ عليه"[13].
ويدلُّكَ على اكتساح العربيَّة لغات البلاد المفتوحة - غير ما ذكره شيخ الإسلام - رحمه الله - فيما تَقَدَّمَ - تلك الأَنَّة الشاكية التي كَتَبها "ألفارو" مَطران[14] "قرطبة" إلى أحد أصدقائه عام أربع وخمسين وثمانمائة منَ الميلاد، يصف فيها حال اللُّغة العربيَّة مع لغة كتابه المُقَدَّس، زَعَم.
وكيف تَحَوَّل أتْبَاعُه، وأتباع كتابه بالأمس إلى لغة القرآن المجيد، ولم يكن قد مَضَى على فتح الأندلس غير مائة وأربعين عامًا عندما كَتَب تلكَ الرِّسالة الشَّاكية.
كتب "ألفارو" مَطران "قرطبة" عام أربع وخمسين وثمانمائة للميلاد إلى أحد أصدقائه يقول:
"مَن الذي يعكف اليوم بين أتباعنا منَ المؤمنينَ على دراسة الكُتُب المُقَدَّسَة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها، مِمَّن كتبوا في اللُّغة اللاَّتينيَّة؟ مَن منهم يدرس الإنجيل، أو الأنبياء، أو الرُّسل؟
إنَّنا لا نرى غير شُبَّان مسيحيينَ هاموا حبًّا باللغة العربيَّة، يبحثون عن كتبها ويتُقنونها، ويدرسونها في شَغَف، ويعلقون عليها، ويَتَحَدَّثُون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشِّعر في رقة وأناقة.